إعداد: ولـيد بـويـز
walidbouez@live.com – 70/174981
فن التنجيم أو علم النجوم له مرادفات أخرى منها: النجامة والتبريج والتفلك وأشهرها عند العرب الأحكام النجوميَّة، ويُعرف عند الغربيين بإسم الأسطرولوجيا، وهي كلمة مكوَّنة من كلمتين: “أسطر” وتعني النجم، ولوجس وتعني الخطاب، أي خطاب أو حديث النجوم. والعرّاف الذي يمتهن هذا العلم يسمّى منجّماً أو أحكاميّاً. والأحكام النجوميَّة هي صناعة الإخبار بالحوادث من النظر في الكواكب والحوادث العلويَّة. وكان العلماء لا يفرّقون بين علم الهيئة والأحكام النجومية، فكان المتكلّم في حركات النجوم وعلاقاتها بعضها ببعض هو نفسه الذي ينبىء بالحوادث المقبلة من النظر لتلك الحركات، ولم يميز بين هذين العلمين إلاّ حوالي القرن 18 الميلادي.
كان حكماء العرب يصنّفون علم الهيئة أي علم الفلك في المرتبة الرابعة من العلوم العقليَّة وكان من فروعه الأزياج والأحكام النجوميَّة. أمّا الآن فالتنجيم فنٌّ مستقلٌّ بذاته و إن كان يعتمد على علم الفلك في حساب الهيئة الفلكية، إلاّ أنّه يصنّف مع العلوم الروحانيّة و فنون العرافة.
ومهما تعمّقنا في التاريخ فإننا نجد بقايا لعلم الأحكام النجوميَّة، فقد عمل به الرومان والإغريق وقدماء المصريين في عهد الفراعنة، ومن قبلهم كانت طائفة الكهّان عند البابليين والسومريين يحفظونه وكانت مهمّتهم تقتضي مراقبة النجوم وإخبار الملوك بكل ظاهرة غير عاديّة، كما كان التنبّؤ بالكسوفات والخسوفات كذلك ذا أهميّة كبرى. وفي تلك الفترة كان التنجيم يُسخَّر للملوك والكهّان أساساً وإستُعمل بالخصوص لإدارة شؤون الحاضرة أو الدولة.
خلَّدت لنا الحضارات القديمة التي شيَّدت الأنصاب الحجريَّة “ستونهينج” في سهل ساليبوري بإنجلترا كشاهد قوي على معرفتها بالتنجيم، وتُعدُّ ستونهينج نوعا من التقويمات تسجَّل فيها حركات فصول السنة. وفي أميركا الجنوبيَّة والوسطى بلغت شعوب الأزتيك والمايا درجة عالية من الدقَّة في حساب سير الكواكب و النجوم، وكانوا يعتبرونه عملاً ضرورياً لتحديد تواريخ الأعياد والمناسك الدينيَّة، ورغم التخريب الذي ألحقه المعمّرون الأوروبيّون بهذه الحضارات بقيت بعض الآثار من علومها مسجّلة في الحجر المعروف بأنصاب الزمن. أمّا في الصين يبدأ التقويم الصيني القديم في سنة 2637 قبل الميلاد، ولم يكن يتم الجزم في أمر من أمور البلاط الإمبراطوري إلا بعد استشارة النجوم. غير أنَّ حضارات المايا والأزتيك والصينيين استعملوا أحكاما نجوميَّة تختلف كثيراً في دلالاتها عن التنجيم الذي نعمل به والذي ترعرع في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسّط.
لعب العرب دوراً كبيراً في ازدهار التنجيم، فهُم من أحيى التراث التنجيمي اليوناني ومزجوه بتراث الحضارات الأخرى التي كانت تحت سيادة إمبراطوريتهم خصوصا التنجيم الفارسي والهندي، فظهر إلى الوجود الأحكام النجوميَّة العربيَّة، و ذاع صيت المنجمين العرب وتُرجمت مصنَّفاتهم إلى اللغة اللاتينيَّة وعَمَل بأحكامهم منجموا الغرب فترة طويلة، وأشهر الأحكاميين العرب أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي المتوفى عام 886 م كأعظم علماء العرب في علم الأحكام النجوميَّة وأشهر كتبه كتاب المدخل إلى علم أحكام النجوم، وكذا الفيلسوف الكندي، وبالمغرب الأقصى اشتهر ابن البناء وابن قنفذ، وبالأندلس لا يزال ذكر مسلّمة المجريطي كأحد كبار الحكماء وكتابه غاية الحكيم في السحر مُقدَّس لدى الغربيين ويطبع ليومنا هذا بإسم “بيكاتريكس”.
ولم يتم التمييز بين التنجيم وعلم الفلك إلاّ حديثاً خلال الثورة العلميَّة في القرن 18م في أوربا. فالتنجيم كما نعرفه نقل إلينا عن طريق اليونان الذين أخذوه عن المصريين القدماء والكلدانيين، وأشهر كتاب في التنجيم هو التيترابيبلوس الذي اشتهر عند العرب بإسم المقالات الأربع، مؤلّفه كلود بطليموس صاحب كتاب المجسطي الغني عن الذكر وكتاب الجغرافيا وكتاب الثمرة، وكان يعيش بالإسكندريَّة في القرن الثاني الميلادي. وقد أصبح كتاب المقالات الأربع المرجع الرئيسي في أصول التنجيم عند المنجمين المعاصرين، مع العلم أنّه تُرجم عن العربيَّة. وبعدما عرف التنجيم انتشاراً كبيراً، في العصور الوسطى تعرَّض للكسف ابتداءً من القرن 17 و18م، فبعد إبعاده عن الجامعات، أصبح يُصنَّف ضمن العلوم الروحانيَّة وفنون العرافة، وظلَّ منتشراً في العالم الإسلامي إلى أن اندثر و انمحت آثاره مع قدوم الإمبرياليَّة الأوروبيَّة.
جاء عصر النهضة التنجيميَّة في أوروبا في نهاية القرن 19م تحت زخم “بول شوازنار” بفرنسا و”فون كلوكلر” بألمانيا، ومنذ ذلك الوقت أصبح التنجيم يستردُّ ما انتزع من حقوقه، ورغم أنَّه لم يستعد بعد مكانته القديمة فإنّه مستمرٌّ في تطوّره.
وفي الوقت الراهن يتوافق التنجيم القديم مع التنجيم العلمي العصري أو ما يسمّى بالخطأ الغربي، فالأبحاث كثيرة وأصبحت تعتمد على الإحصائيّات بكثرة من لدن مجددي هذا العلم، والنتائج تتطابق بشكلٍ عام مع الأصول القديمة، ويبقى هناك مجال واسع يجب تغطيته لوضع هذا العلم في زمن العالم المعاصر، لكن في كثيرٍ من أرجاء العالم ينكب على ذلك عدد من الأحكاميين. ولا يزال قسم كبير من التراث التنجيمي العربي الكبير يحتاج لمن يرفع النقاب عنه و يدرسه و يجدده، وينفض عنه غبار المكتبات الخاصّة وينشره ليطّلع عليه كل الناس.